الأوقاف - بغداد
في عالم مليء بالأحلام والفرص، يختار بعض الطلبة أن يودعوا حياتهم في صمت قاتل. لا صرخات، ولا تلميحات. فقط قرار نهائي، قد يبدو للكثيرين مفاجئاً، ولكن إذا نظرنا عن كثب، سنجد أن الطريق إلى هذه النهاية بدأ منذ وقت طويل.
ما الذي يدفع شاباً في ربيع عمره، كان يفترض أن يكون غارقاً في طموحاته وآماله، إلى اتخاذ قرار بالانتحار؟ هل هو مجرد ضعف؟ أم أن هناك شيئاً أكبر، مستتراً وراء القلق والضغط، والتوقعات التي لا تنتهي؟.
في هذا الصدد، يقول المستشار الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة الدكتور عدنان ياسين محمد: إن هناك أسباباً رئيسة عدة لظاهرة الانتحار بين الطلبة، من أبرزها الضغط الكبير الذي يتعرضون له من قبل أسرهم للحصول على معدلات عالية تؤهلهم للالتحاق بكليات مرموقة، مضيفاً "في بعض الحالات، لا يستطيع الطالب تحقيق هذه المعدلات بسبب ظروفه الاجتماعية والاقتصادية، ما يؤدي إلى الشعور بالإحباط".
وأشار في حديثه" إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تسهم في تحفيز وتشجيع مثل هذه الأفكار، إضافة إلى غياب التوعية الكافية حول مخاطر الانتحار. ومن العوامل الأخرى التي تزيد من الضغط النفسي، يؤكد الدكتور عدنان ياسين أنها تتعلق بالوضع المعاشي والاقتصادي الذي يعاني منه العديد من الطلبة وأسرهم، حيث يصعب عليهم توفير الدروس الخصوصية في المعاهد الخاصة، إذ يقتصر تعليمهم على المدارس الحكومية، وهو ما يعتبره البعض أقل فاعلية مقارنة بالتدريس الخاص.
وفي ما يتعلق بالحلول الممكنة، أكد أهمية توفير مكاتب للصحة النفسية في الكليات والجامعات لتقديم الدعم النفسي للطلبة الذين يعانون من الاكتئاب أو القلق أو التفكير في الانتحار. كما شدد على ضرورة نشر التوعية بالصحة النفسية بشكل عام وبمخاطر الانتحار بشكل خاص، من خلال الدورات التربوية والإرشادية الوقائية. وأوضح المستشار أيضاً أن الطلبة بحاجة إلى مساحة للراحة والاسترخاء، خاصة في ظل غياب الأنشطة الترفيهية في المدارس، مثل حصص التربية الرياضية والفنية التي يتم استبدالها بمناهج أكاديمية أخرى، فضلاً عن غياب تنظيم الرحلات المدرسية أو الأنشطة التي تسمح للطلبة بالتنفيس عن ضغوطهم، ما يؤثر بشكل سلبي في صحتهم النفسية.
وأكد الدكتور عدنان أن ظاهرة الانتحار لا يقتصر تأثيرها على الفرد فقط، بل تمتد لتؤثر في الأسرة والمدرسة والمجتمع ككل، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى إحباط باقي الطلبة وتدني مستوياتهم الأكاديمية، ما يخلق حلقة مفرغة قد تؤدي إلى مزيد من حالات الانتحار.
عن هذا الموضوع، تحدث الأكاديمي علي محسن ياس العامري، رئيس قسم الإرشاد النفسي والتوجيه التربوي في الجامعة المستنصرية وعضو اللجنة الوزارية المكلفة بدراسة ظاهرة الانتحار، مؤكداً أن الضغوط النفسية والأسرية والدراسية التي يتعرض لها الطلبة يومياً تُعد من العوامل الرئيسة التي تدفعهم إلى التفكير في الانتحار. وفي حديثه لـ"الصباح" يشير العامري إلى أن بعض المواقف الدراسية، مثل الإعلان عن نتائج الامتحانات النهائية خاصة في المرحلة الإعدادية، قد تزيد من احتمالية تفكير الطلبة في الانتحار، مبيناً أن العديد من الطلبة يشعرون بالانهيار النفسي بسبب عدم تحقيق توقعات أسرهم بالتفوق، خصوصاً في دخول المجموعة الطبية.
ويضيف أن الأسرة تلعب دوراً كبيراً في زيادة الضغوط على الطلبة، حيث أن بعض الأسر لا تتحمل فشل أبنائها في تحقيق النتائج المرجوة، ما يدفع الطلبة إلى اعتبار الانتحار مخرجاً من هذه الضغوط.
وفي ما يتعلق بالوقاية، ينوه العامري إلى وجود مقاييس نفسية لقياس التفكير الانتحاري والميل نحو السلوك الانتحاري، تم تعميمها في مراكز الإرشاد النفسي والتوجيه التربوي بالمدارس الإعدادية. ومع ذلك، يلاحظ أن بعض المدارس تفتقر إلى وجود مرشدين تربويين لمتابعة الحالات النفسية والسلوكية للطلبة.
وتابع العامري "كما توجد برامج إرشادية وقائية تهدف إلى منع الطلبة من التفكير في الانتحار، إضافة إلى برامج تعزز الثقة بالنفس وتنمي القدرات والمهارات الفردية، مشدداً في الوقت نفسه على أهمية دور الأسرة في تخفيف الضغوط عن الطلبة خلال فترة الامتحانات.
وأكد أن الصحة النفسية والسلوكية والجسدية للطلبة لا تعوض إذا فقدت. ويذكر أن الذكاء والقدرات تختلف من شخص لآخر، ويجب على الأهل تقبل هذه الفروق الفردية وعدم تحميل الطلبة ما يفوق طاقتهم، داعياً إلى ضرورة التعامل مع الطلبة بفهم ومراعاة للضغوط التي يواجهونها، مع أهمية توفير الدعم النفسي والتربوي المناسب لهم. كما يلفت الانتباه إلى أهمية وجود مرشدين تربويين في المدارس لمتابعة الحالات النفسية والسلوكية للطلبة، وتنفيذ البرامج الوقائية التي تساعد في تجنب التفكير في الانتحار.
ويؤكد الخبير الأمني سرمد البياتي وجود ارتباط كبير بين الصحة النفسية للطالب وتأثيرها بالوضع الأمني العام في البلاد، إضافة إلى الظروف الأسرية والاجتماعية داخل المنزل والمنطقة والمحافظة. وأوضح لـ"الصباح" أن هذه العوامل مجتمعة تؤثر بنسب متفاوتة في الصحة النفسية للطلبة، ما قد يؤدي إلى زيادة خطر الانتحار.
وأشار البياتي إلى أن الانتحار يحدث لأسباب متعددة، منها اقتصادية وأمنية، خاصة في المناطق التي تشهد اضطرابات. ولذلك، أكد ضرورة تنظيم حملات تثقيفية لتوضيح أن البلاد تمر بمراحل مختلفة، وأن الوضع الحالي مستقر نسبياً، لكن ما زال هناك حاجة لتعزيز الوعي حول الصحة النفسية.
وأضاف أن هناك حاجة ماسة إلى عقد حلقات ثقافية وتوعوية يقوم بها الملاك التدريسي في المدارس والمعاهد والجامعات، بدعم من الجهات المعنية مثل الشرطة المجتمعية أو فرق مكافحة الشائعات. كما أشار إلى أهمية وجود مختصين في الأمن يتحدثون مع الطلبة بمستوياتهم المختلفة، لفهم طبيعة تفكيرهم وتقديم الدعم النفسي والأمني المناسب.
واختتم البياتي بأن هذه الخطوات التوعوية والثقافية يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في الحد من ظاهرة الانتحار، من خلال تعزيز الوعي وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للطلبة في مختلف المراحل الدراسية.